ما هي فتنة خلق القرآن
من أخطر الفتن التي مرت على التاريخ الإسلامي بل أخطرهم على الإطلاق؛ فتنة خلق القرآن، هذه الفتنة التي أخذت في طريقها الكثير من العلماء وراح ضحيتها من المسلمين بالمئات ولا حول ولاقوة إلا بالله، فما هي الفتنة المعروفة بخلق القرآن ومن الذين تصدوا لهذه الفتنة، وما دور الإمام أحمد بن حنبل في ردع فتنة خلق القرآن؟ تعالوا معنا..
ما هي فتنة خلق القرآن | ومن الذي قضى عليها |
القرآن الكريم كلام الله
أنزل الله سبحانه وتعالى كلامه و وحيه وعلمه على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم - فكان ختاماً للكتب وآخر الرسالات إلى بني آدم إلى أن يقضي الله أجله على البشر، فأنذر محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم -أمته وأبلغنا أحسن تبليغ وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك.
ونحن قد آمنا وصدقنا أنه القرآن كلام الله مُنَزَّل من عند الله غير مخلوق كما أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم -، هو من علم الله جل في عُلاه ونبرأ إلى الله بأن يُقال على علم الله مخلوق كما يدعي أهل الضلال والفتن من المعتزلة وغيرهم.
نشأة فتنة خلق القرآن
ظهرت فتنة خلق القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم - وقد علم بها ولكن لم يدعو الناس إليها ولم يقول بها، وكان أول من قال بخلق القرآن رجلٌ يسمى الجَعْد بن درهم الذي قال عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال "مُبتدعٌ ضال زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يُكلم موسى تكليما " وقد قال الجعد هذا بقول المعتزلة الذين ينفون صفة الكلام عن الله سبحانه وقد جعلوا الله بلا أسماء ولا صفات وقالوا بخلق القرآن.
و ظلت الفتنة راكدة حتى عهد هارون الرشيد فأخذت تتحرك تحت ستر خوفاً من الرشيد، كان من أهم رجال المعتزلة الذين دعوا بخلق القرآن بشر المريسي و أحمد بن أبي دؤاد، وكان الرشيد -رحمه الله - عندما بلغه أن بشر المريسي يقول بخلق القرآن قال والله إن ظفرت به لأقتلنه، فكان بشر مستتر في عهد الرشيد.
فلما مات الرشيد وتولى مكانه ابنه المأمون بعد حرب ضارية نشبت بينه وبين أخيه الأمين وانتهت بمقتل الأمين وتنصيب المأمون خليفة للمسلمين، وكان المأمون قد تأثر بفكر الفلاسفة وعلم الكلام وباحث المعتزلة وبدأ يقدم رجلاً ويُأخر رجلاً في دعوة أهل الاعتزال إلى القول بخلق القرآن إلى أن قوي عزمه بالقول على ذلك في السنة التي مات فيها.
ومسألة خلق القرآن ليست محصورة في القول بخلق القرآن وإنما هذه هي علامة على ما وراء ذلك من المعتقد من نفي صفات الله جل وعلا، بل غالت الجهمية فنفت عن الله اسمائه جل وعلا، فلم يثبتوا لله رب العالمين اسماً ولا صفة.
ما المقصود بخلق القرآن
المعروف لنا نحن أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر، وأن القرآن من علم الله ليس مخلوق، ولكن ما معنى أن يكون القرآن مخلوق ؟ وما الفرق بين مُنَزَّل ومخلوق؟
المقصود بخلق القرآن
كلمة مخلوق أنه شئ لم يكن له وجود من قبل مثل الأرض والسماوات وغيرهما ، ولكن القرآن هو من علم الله والمقصود بخلق القرآن -وأعوذ بالله من مقالة كهذه - أن الله لم يكن لديه علماً في الأزل فخلق علماً وأصبح ذا علم، وهذا فكرٌ ضال مُضل من أهل المعتزلة والبدع، ولا أظن مؤمناً يقول مثل هذا الكلام المُتهافت الذي لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.
المقصود بأن القرآن مُنَزَّل غير مخلوق
معنى أن القرآن غير مخلوق أن علم الله كان موجوداً في الأزل ولم يُخلق مثل باقي المخلوقات، هو كلام الله ومن علمه أُنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم -، والله يتكلم ولكن لا نعلم كيف يتكلم ولا بأي طريقة يتكلم فهو كما وصف نفسه
" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ".
خلفاء العباسيين وفتنة خلق القرآن
الخليفة هارون الرشيد
كان أول من أبغض القول بخلق القرآن هو الخليفة العباسي هارون الرشيد وكان يقتل كل من يقول بخلق القرآن، ولم يستطع أحد من المعتزلة الدعوة إلى خلق القرآن في عهد هارون الرشيد مطلقاً.
الخليفة المأمون
ولما مات الرشيد تولى الخلافة ابنه الأمين ثم حدثت الفتنة المشهورة بفتنة الأمين والمأمون والتي انتهت بمقتل الأمين وتولي المأمون للخلافة، والذي كان قد تأثر بفكر أهل الاعتزال بل وقربهم منه وأعطاهم المناصب القيادية في الدولة مثل أحمد بن أبي دؤاد الذي تولى منصب قاضي القضاة، فاتسعت رقعة المعتزلة وبدأوا ينشرون عقيدتهم الفاسدة ويجبرون الناس عليها بمساعدة الخليفة المأمون الذي كان قد اقتنع بتلك العقيدة، حتى أحس المأمون بقرب أجله فأوصى بالخلافة من بعده إلى أخيه المعتصم.
الخليفة المعتصم
كان المعتصم رجل حرب وقتال ليس له في شؤون العلم والفقه شيء، فاتبع منهج أخيه المأمون في التعامل مع فتنة خلق القرآن، فسجن كل من عارضه في عقيدته ومن لم يقل بخلق القرآن قتله، وجعل أحمد بن أبي دؤاد أقرب رجال الدولة له، ولم يتبق أمامهم معارض سوى الإمام أحمد بن حنبل فارتكب المعتصم جريمة بحق الإمام أحمد وهي أن جلده بالسياط في شهر رمضان وهو صائم فأغمي عليه وتمزق ظهره حتى كاد أن يهلك.
الخليفة الواثق
تولى الواثق ابن المعتصم الخلافة بعد موت أبيه وسار على نهج أبيه وعمه المأمون في القول بخلق القرآن، كان قد تربى على يد أحمد بن أبي دؤاد فحارب أهل السنة وساند المعتزلة وأهل البدع حتى هلك وتولى مكانه أخيه المتوكل على الله.
الخليفة المتوكل على الله العباسي
كان الخليفة المتوكل على مذهب أهل السنة يبغض المعتزلة، فأزاح الغمة وأعلى من أهل السنة، وأمر برفع البدعة ومحاربة كل من يقول بخلق القرآن، وأعلى من قدر الإمام أحمد بن حنبل وجعله مُربي ولده المعتز وأغدق عليه المال من كل جانب إلا أن الإمام رفض وكان الزهد سبيله في الحياة، وانتهت فتنة خلق القرآن في عهد المتوكل على الله العباسي.
مناظرة الإمام أحمد بن حنبل مع المعتزلة
لم تكن محنة خلق القرآن مقتصرة على الإمام أحمد بن حنبل فقط بل إنها عمَّت الكثير من العلماء فسُجن منهم من سُجن وقُتل منهم من قُتل مثل محمد بن نوح والبويطي ونعيم بن حماد.
ولعل أكثر من تحمل عبء هذه الفتنة هو الإمام أحمد فصمد حتى أخرج الله على يده نصره العظيم، ولا ندري ما كان يمكن أن يحدث لولا أن الله سخر الإمام أحمد بن حنبل لردع هذه الفتنة، لذلك قال المزني -رحمه الله -: "عصم الله الأمة بأبي بكر يوم الردة ، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة ".
التعريف بالإمام أحمد بن حنبل
هو شيخ الإسلام صدقاً والإمام حقاً ، إمام أهل السنة، الفقيه المحدث، وركن الدين وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة، الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله، وُلد بمرو في إقليم خرسان سنة 164هـ وقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمه.
فانتقلت به إلى بغداد وهناك طلب العلم وهو ابن الخامسة عشرة عام 179هـ في نفس العام الذي توفي فيه الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-، واهتم أحمد بن حنبل بطلب العلم وسافر الكثير من البلاد بحثاً عنه وتتلمذ على يد أعظم علماء عصره ولعل أعظمهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله -، فجمع الأحاديث وتفرغ لعلم الله حتى أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين ، فبلغ عدد مروياته من الأحاديث والآثار ألف ألف حديث وله مُسْنَد باسمه "مُسْنَد الإمام أحمد ".
وقال عنه الإمام الشافعي: "خرجت من بغداد فما خلفت فيها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل، وهو أفضلُ عندي من سعيد بن جُبير في زمانه لأن سعيداً كان له نُظراء.
مناظرة الإمام أحمد مع المعتزلة
أمر الخليفة المعتصم رجال الشرطة بالقبض على الإمام أحمد وظل في سجن المعتصم أكثر من ثلاثين شهراً يتوافد عليه رجال المعتزلة فيُناظرهم واحداً تلو الآخر حتى تكالبت عليه العلل والأمراض في سجنه وهو في شهر رمضان.
وبعد أن انتهي المعتصم من كل رجال الدين الذين يرفضون القول بخلق القرآن إما بالسجن أو القتل ولم يتبق إلا أحمد بن حنبل، فوقف الإمام أحمد أمام رجال المعتصم من أهل المعتزلة أمثال أحمد بن أبي دؤاد، فقال الإمام أحمد: ماذا تقول في علم الله يا ابن أبي دؤاد؟ أهو مخلوق أم غير مخلوق؟
القرآن من علم الله فإذا كان علم الله غير مخلوق فالقرآن غير مخلوق، وإذا كان علم الله مخلوقاً فهذا يعني أن الله كان في الأزل بغير علم ثم خلق علمه فصار ذا علم، ما أعرفه أن الله أحدٌ صمد لا شبه له ولا عِدل وهو كما وصف نفسه.
المعتزلة: يا أحمد القرآن شيء أم غير شيء؟
الإمام أحمد: هو شيء.
المعتزلة: قال الله تعالى " اللهُ خَاَلِقُ كُلَّ شَيء " القرآن شيء ألا يدخل هذا تحت خلق الله؟
الإمام أحمد: قال الله تعالى في الريح التي أهلكت قوم عاد " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيء بِأَمْرِ رَبِّهَا " فهل دمرت السماء والأرض؟ أم أنها دمرت ما أراد الله فقط ، إن الاستغراق في الآيتين يشملُ ما أراد الله فقط.
المعتزلة: ما تقول يا ابن حنبل في قوله تعالى " مَا يَأْتِيِهم مِّن ِذكرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ " أفيكون مُحدَثٌ إن لم يكن مخلوقاً؟
الإمام أحمد: أخطأت أيها الرجل إنما المقصود بقول الله " مَا يَأْتِيِهم مِّن ِذكرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " إنما هو ما يُحْدِثهُ الله عند المؤمنين من العلم ما لم يسمعوه ولم يأتهم به كتاب قبله ولا جائهم به رسول ، ألم تسمع قول الحق " وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ " فعلمُ نِزول القرآن مُحدثٌ عندنا وغير مُحدث عند ربنا.
المعتزلة: وما تقول في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم - حين قال " ما خلق الله عز وجل من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكُرسي " أفيكون هنا خطأ أيضاً؟
الإمام أحمد : أولاً هذا ليس بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إنه قول لعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -.
ثانياً اقرأ الأثر جيداً لقد وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على القرآن أليس كذلك ؟.
وهكذا ظل الإمام أحمد ثابتاً يرد على المعتزلة تهافتهم ، وتوجه إلى المعتصم وقال : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به.
فلما طالت المناظرة و دجر المعتصم من هذا الموقف هدد الإمام أحمد بالضرب فلم يجزع الإمام فأخذته الجنود وصلبوه على خشبة الجلد فجلده المعتصم حتى أغمي عليه، ورُغم أن المعتصم هو من أقدم على جلد الإمام إلا أنه لم يكن مقتنعاً مثل المأمون لهذه البدعة وكان يود لو أطلق سراح الإمام أحمد لولا أن رؤوس البدع أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على هذه الفعلة الشنعاء.
المصادر والمراجع
- سير أعلام النبلاء.
- تاريخ بغداد.
- البداية والنهاية .
- الكامل في التاريخ.
- ميزان لاعتدال في نقد الرجال.
اقرأ في: نكبة البرامكة والخليفة هارون الرشيد القصة الكاملة
اقرأ في: قصة حياة الإمام أحمد بن حنبل
اقرأ في: تفاصيل الصراع بين الأمين والمأمون
اقرأ في: مناظرة الإمام الشافعي مع المعتزلة
ضع تعليقك هنا لتشارك في صنع المحتوى