موقعة صفين والتحكيم بين علي ومعاوية
وقعت معركة صِفين بين سيدنا علي بن أبي طالب وسيدنا معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما - بعد الفتنة التي حدثت عقب مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه -، ولجأ المسلمون إلى التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وكانت لمعركة صفين الكثير من النتائج المتربتة عليها وهذا ما سوف نعرضه بالتفصيل، وسبب الخلاف بين علي ومعاوية.
موقعة صفين والتحكيم بين علي ومعاوية | الفتنة الكبرى |
أسباب موقعة صِفين
وقعت موقعة صفين في السنة الثانية من خلافة سيدنا علي -رضي الله عنه -، وموقعة صفين هي المعركة التي وقعت بين جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان في شهر صفر سنة 37 هـ، بعد موقعة الجمل بسنة تقريبا، على الحدود السورية العراقية والتي انتهت بعملية التحكيم في شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين للهجرة.
وكان معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه - قد امتنع عن مُبايعة سيدنا علي حتى يتم القصاص لسيدنا عثمان لأنه ولي الدم وله صلة قرابة من سيدنا عثمان، فلمَّا انتهى سيدنا علي من موقعة الجمل قال لابد أن يُبايعه معاوية الآن لتوحيد صف المسلمين.
وجهز الجيش لمقاتلة معاوية أو يبايع، فخرج علي بجيش قوامه 100 ألف إلى صِفين في الشام، فلما سمع معاوية بخروج علي لقتاله صعد المنبر وقال، إن علي نَهَدَ إليكم في أهل العراق فما الرأي ؟ فضرب الناس بأيديهم على صدورهم، فقام ذو الكلاع الحميري وقال: عليك الرأي وعلينا الفِعال والناس سكوت.
وصعد علي -رضي الله عليه -المنبر فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه إن معاوية قد نهض عليكم في أهل الشام فما الرأي ؟ فنهض أهل المسجد يقولون يا أمير المؤمنين الرأي كذا و الرأي كذا، فلم يفهم سيدنا علي كلامهم من كثرة من تكلم وكثر اللغط، فنزل وهو يقول إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
فكان هذا حال أهل الشام وهذا كان أهل العراق، فأهل الشام كانوا أهل طاعة وأهل جَلَد، وأهل العراق كانوا أهل فوضى وهم الذين بعد ذلك قاتلوا علياً وقتلوه -رضي الله عنه - وهم الذين استدعوا الحسين بن علي -رضي الله عنه - ثم أسلموه وتركوه يُقتل.
فلما وصل سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - إلى صفين سنة 37 من الهجرة في شهر صفر، وكان قتال علي -رضي الله عنه - في صفين والجمل عن رأيٍ رآه واجتهادٍ تبناه، فقد أخرج أبو داود في سننه عن قيس بن عباد قال: "قلت لعلي -رضي الله عنه - أخبرنا عن مسيرك هذا، عهدٌ عهدُ إليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أم رأيٌ رأيته ؟ قال ما عهد إلي رسول الله شيئاً ولكنه رأيٌ رأيته ".
هل كان معاوية يريد الخلافة
هنا أمرٌ مهم عندنا مُعسكران، على رأس أحد المعسكرين وهو معسكر الشام معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه -، فهل كان ينازع علياً الخلافة؟ بمعنى أوضح هل خرج من أجل أن يكون هو الخليفة وأن يخلع سيدنا علي عن الخلافة ؟
هذا ما أوضحه أبو مسلم الخولاني حيث قال:"دخلت على معاوية فقلت له أأنت تنازع علياً الخلافة ؟ أأنت مثله ؟ فقال معاوية لا والله، إني لأعلم أن علياً أفضل وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه وأنا أطلب بدمه، فأتوا علياً فقولوا له فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له الأمور، فأتوا علياً فكلموه فأبى علي ولم يدفع القتلة ".
إذاً لم يكن معاوية يبتغي الخلافة، ولم يقل إنه خليفة، ولم ينازع علياً الخلافة أبداً، بل إنهما لما تنازعا وصار التحكيم وكتب هذا ما عاهد عليَّ عليٌ أمير المؤمنين معاوية معاوية بن أبي سفيان قال لا تكتب أمير المؤمنين، فلو بايعتك على أنك أمير المؤمنين ما قاتلتك، ولكن اسمي واسمك فقط.
ثم نظر إلى الكاتب وقال له اكتب اسمه قبل اسمي لفضله وسابقته في الإسلام، لم يكن القتال بين علي ومعاوية قتال بين خليفة وخليفة أبداً، ولكن القتال سببه أن علياً يريد أن يعزل معاوية وكان والياً على الشام لعثمان.
أحداث موقعة صفين
انطلق سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - إلى الشام لملاقاة معاوية، واشتعلت نار الفتنة بين علي ومعاوية، وبدأت الرسل بين علي ومعاوية، يطلب علي من معاوية البيعة، ولكن الكل واقف على موقفه فسيدنا معاوية مصمم على الأخذ بالقصاص من قتلة سيدنا عثمان، وسيدنا علي لا يرى أن هذا الرأي هو الرأي الصواب في ذلك الوقت ولابد من التأني.
ونشب القتال بين جيش علي وجيش أهل الشام بقيادة معاوية، واستمر القتال وكادت المعركة أن تُحسم لصالح سيدنا علي إلا أن أهل الشام رفعوا المصاحف على أسنة الرماح والسيوف وقالوا نتحاكم إلى كتاب الله.
فقال فريق علي من أهل العراق ومن غيرهم نتحاكم إلى كتاب الله عز وجل، فطلب منهم سيدنا علي أن يحملوا ويستمروا في القتال وهو أعلم منهم بكتاب الله عز وجل وأدرى بما يقتضيه الموقف، ولكن اضطر أن يخضع لأمرهم ولرأيهم وتوقف القتال.
وهنا ظهرت فتنة في جيش علي هي من أعظم الفتن ومن أخطر الفتن، مرقت فرقة خبيثة من جيش علي ممن كانوا ينصرون علياً ويقاتلون معه إنها فرقة الخوارج الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه - بل وكفروا علي -رضي الله عنه - فقالوا كلاماً خبيثاً، كما وصفه سيدنا علي كلمة حق يراد بها باطل.
قالوا إن الحكم إلا لله، فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها باطل، فعندما توقف القتال وقبل سيدنا علي التحكيم و اختار من عنده أبوموسى الأشعري واختار معاوية عمرو بن العاص -رضي الله عنهم جميعاً - فقالوا يا علي لقد حَكَّمت الرجال في دين الله وحكموا عليه بالكفر.
وقالوا إن الحكم إلا لله، وأثاروا شبهات أخرى حقيرة، قالوا قاتلت أقواماً يقصدون فريق طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم - ولم تغنم أموالهم ولم تسبي نسائهم فإن كانوا مسلمين فقد حُرم عليك قتالهم، وإن كانوا كفاراً فقد حلت لك أموالهم ونسائهم، ثم ها أنت في التحكيم تتنازل عن صفة أمير المؤمنين فإن لم تكن أميراً للمؤمنين فأنت أميراً للكافرين.
رد ابن عباس على الخوارج
ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما - وقال ما تنقمون على ابن عم رسول الله ؟ فقالوا ما ذكر سابقاً، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما - هل لو أجبتكم بآيات من كتاب الله محكمة وبحديثٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - أترجعون قالوا اللهم نعم.
قال: أما الأولى؛ تقولون أنه حَكَّم الرجال في دين الله والحكم لله تبارك وتعالى فلقد حكم الله عز وجل الرجال في القرآن الكريم في أرنب ثمنه ربع درهم.
قالوا: أين ذلك في القرآن يا ابن عباس ؟
قال: يقول الله في القرآن الكريم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرَمٌ وَمَنْ قَتَلَه مِنْكُم مُتَعَمداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ".
دلوني بالله عليكم أتُحَكِّمُوا الرجال لحقن دماء المسلمين أولى أم تحكموا الرجال في أرنب ثمنه ربع درهم أولى ؟
قالوا: اللهم إن تحكيمهم لحقن الدماء أولى.
وقال أيضاً: لقد حكم الله الرجال في القرآن الكريم للصلح بين رجلٌ وامرأة يقول الله
"فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمَاً مِنْ أَهْلِهَا " ، قال أخرجت من هذه ؟
قالوا: اللهم نعم.
الثانية؛ تقولون أن علي بن أبي طالب قاتل أقواماً ولم يسبي نسائهم ولم يغنم أموالهم، أكنتم تريدون أن يغنم أموال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأن يأخذها في السبي ؟ إن قلتم نعم فقد كفرتم لأن أم المؤمنين هي أمه والله تبارك وتعالى يقول " النَبِي أَوْلَى بِالمُؤمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ".
أكنتم تريدون أن يأخذ أمه سبياً وأن يأخذ أموالها غنيمة ؟
قالوا: اللهم لا ، قال: أخرجت من هذه ؟
قالوا: اللهم نعم.
قال الثالثة؛ تنازل عن صفة أمير المؤمنين فهو أمير للكافرين، قال لهم لقد تنازل رسول الله يوم صلح الحديبية عن صفة الرسالة وكان عليٌ -رضوان الله عليه - كاتب العقد والعهد، والحديث في الصحيحين من حديث البراء بن عازب.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: " يا علي هاتي اكتب بيننا وبينهم كتاباً اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم، فقال الصحابة لا والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي لعلي اكتب باسمك اللهم هذا ما قضى عليه محمد رسول الله قريشاً.
فاعترض سهيل بن عمرو قال والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ولكن اكتب هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله، فقال -صلى الله عليه وسلم - والله إني لرسول الله وإن كذبتموني يا علي امحُ رسول الله فقال علي لا والله لا أمحك أبدا.
فطلب النبي من علي أن يشير إليه على موضع الكلمتين فمحاهم النبي بيده وقال اكتب هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله ".
فبعد هذه المناظرة عاد مع ابن عباس -رضي الله عنهما - ما يزيد عن ستة آلاف رجلٍ من هؤلاء الذين كانوا يكفرون علياً قبل هذه المناظرة.
التحكيم بين علي ومعاوية
من أهم نتائج معركة صفين هو التحكيم الذي وقع بين سيدنا علي وسيدنا معاوية، ولقد أثارت قضية التحكيم بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما - كلاماً خطيراً وكلاماً خبيثاً من بعض الناس ولاسيما الشيعة والخوارج، ومن الروايات الخاطئة التي تشتهر بين الناس للأسف في قضية التحيكم ما يلي:
رواية باطلة عن التحكيم بين علي ومعاوية
الرواية عند الإمام الطبري قال: عن أبي مِخْنف لوط بن يحيى- وأبو مخنف هذا كذاب -
قال: حدثني أبو جناب الكلبي أن أبى موسى الأشعري وعمرو بن العاص اجتمعا
بدومة الجندل -اسم مكان -، واتفقا على أن يخلع علياً ومعاوية.
وهذه أول أكذوبة فهذه رواية باطلة، فمعاوية لم يدعي الخلافة حتى يخلع من الخلافة وما طلب من الناس البيعة بالخلافة، وبعد أن اتفقا على أن يخلعا علي ومعاوية وقدم عمرو بن العاص أبو موسى الأشعري ليتكلم هو أمام الناس أولاً، فلما تقدم أبو موسى واجتمع الناس ليسمعوا حكم الحكمين في هذه القضية قال أبو موسى الأشعري بعد أن حمد الله لقد رأينا أن نخلع أنا وصاحبي علياً ومعاوية وأن نترك الأمر شورى للمسلمين ليختار المسلمون من أحب لهم.
فقام عمرو بن العاص فحمد الله ثم قال لقد سمعتم ما قال صاحبي بأنه قد خلع صاحبه علياً وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فلما سمع ذلك أبو موسى الأشعري قال غدرت وفجرت مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فقال له عمرو وأنت مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
كل هذا هراء وضلال وتخريف وافتراء على صحابة رسول الله -رضوان الله عليهم جميعاً - وهذه الرواية لا تصح متناً ولا سنداً.
الراوية الصحيحة عن التحكيم بين علي ومعاوية
الصحيح فيما دار من التحكيم بين علي ومعاوية ما رواه الدار قطني بسند حسن أن حضين بن المنذر وهو تابعي ثقة، قال: سألت عمرو بن العاص عن قضية التحكيم ما الذي كان ؟
فقال: عمرو بن العاص والله قد قال الناس فيها ما قالوا وليس الأمر كما قالوا بل لقد سألت أبو موسى الأشعري ما تقول ؟
قال: أرى أن يكون الأمر شورى في أولائك الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض - يقصد علي -، فقال عمرو بن العاص فقلت لأبي موسى الأشعري:
فما تقول في أنا ومعاوية ؟
قال: إن يُسْتَعن بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتغنى عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما، ثم انتهت قضية التحكيم على ذلك ورجع أبو موسى الأشعري إلى سيدنا علي ورجع عمرو بن العاص إلى سيدنا معاوية بهذا الرأي رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين.
التصرف الصحيح من المسلم للتعامل مع تلك الفتنة
في موقعة صفين قُتِل سيدنا عمار بن ياسر -رضي الله عنه - وكان من ضمن جيش سيدنا علي -رضي الله عنه -، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم - قال لعمار: " يا عمار ستقتلك الفئة الباغية " وهذا متفق عليه.
قيل للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -، ماذا عن حديث تقتلك الفئة الباغية ؟ قال لا أتكلم فيه فتركه أسْلَم وأقول كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم -" قتلته الفئة الباغية " وسكت.
وهذا أدبٌ مع الصحابة وحسن التعامل معهم -رضوان الله عليهم أجمعين -، بل هو الواجب على كل مسلم مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأما الفلسفة والكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع والوقوع في صحابة رسول الله والتطاول على مقاماتهم فكل هذا ليس من شأن المؤمنين.
فهذا الإمام أحمد إمام أهل السنة يقول لا أتكلم في هذا الحديث تركه أسلم وقال مثل ما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم - " قتلته الفئة الباغية " وسكت.
قال ابن حجر: ذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قَاتَل مع علي، وقد ثبت أن من قاتل ضد علياً كانوا بُغاة، ومع هذا التصويب فهم متفقون على أنهم لا يذم واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطأوا، وقال اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد الصحابة بسبب ما وقع منهم حتى ولو عُرف المُحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا إلا عن اجتهاد.
هذا ما كان من أمر التحكيم بين سيدنا علي وسيدنا معاوية -رضي الله عنهما -
والله أعلى وأعلم.
ضع تعليقك هنا لتشارك في صنع المحتوى